رنين الهاتف المحمول لم يفلح في إيقاظه إلا بعد حين! لم يكن نائما ولكنه هجع مسترخيا في تلك المساحة الغائمة التي تتأرجح علي هامش الوعي... وجاءه صوتها أخيرا أحقا ستسافر؟, تنبه للسؤال ولأهمية رده عليه, صمت برهة يسائل نفسه أولا: هل تواصل اللعبة أم تكف عنها؟.. ولم ير إلا أن يلقي الكرة في ملعبها
ـ وما رأيك أنت؟ تريدينني أن أسافر؟..
ـ وما شأني بقراراتك؟ أريد فقط أن أعرف وجهة سفرك إن كنت جادا..
ـ الحقيقة أن أمامي فرصة للاختيار بين بلدين.. تونس أو لبنان!..
ـ رأيي أن الإسكندرية أفضل.. فكر في الإسكندرية..
وضحكت ضحكة خفيفة أحس فيها بنبرة ساخرة.. وحين انتهت المكالمة كان جسده يرتعد تحت ضغط إحساسه بأنها قد اكتشفت بطريقة ما أبعاد لعبة الغياب وأنها لاشك تراه الآن في صورة الأخرق النزق.. وانتابه خجل أحنقه عليها وعلي نفسه واتخذ قراره بأن يسافر بالفعل!
كانت الأمسية ثقيلة راكدة الهواء.. وذرات الغبار العالق بجو خماسيني حار تلسع أنفه وتحول عملية التنفس الي ما يشبه الاختناق.. والشرفة البحري المطلة علي سرايا الباشا والتي كانت دائما يغربل الهواء فيها ويحمل الي الجالس فيها عطر الياسمين.. لا يتحرك هواؤها بنسمة شاردة.. بل يمتلئ بالهاموش وحشرات أخري صغيرة تلدغ في لزوجة منفرة! يحس بأنفاس الشيخ عادل تلامس بدورها أديم أذنيه..
ـ أوحشتني برغم نذالتك!..
التفت إليه ورآه يسحب الكرسي ويجلس.. إذن فقد أنهي الشيخ عادل غربته الاختيارية!
ـ أتظن فعلا أنني نذل يابن عمتي؟
ـ أظن؟ أنا علي يقين يا ابن خالي..
***
رأتهما خلف ستائر الصالة العلوية جالسين معا.. وخالجها إحساس غير مبرر بالابتهاج.. كانت تعرف عن يقين مدي ارتباط كل منهما بالآخر.. لم يكن ارتباط ذوي القربي بقدر ما كان ارتباط الصداقة الحميمة.. وكم أزعجها وجودها عند مفرق الطريق بينهما.. وحزنت فعلا لانقطاع الشيخ عادل عن سرايا الباشا, خاصة أنها وقد علمت أنه انسحب من منافسة ـ رآها غير متكافئة ـ بينه وبين ابن خاله وصديقه الأقرب.. ومس قلبها احساسه بالعجز.. ولكنها أدركت مثلما أدرك هو أن المنافسة قد حسمت لمصلحة أستاذ الجامعة!
من خلف كتفها جاءها صوت الأم: لا تعطي للآخر أملا كاذبا يا ابنتي..
أنا لم أعط أيهما أي شئ.. ولا أريد!.. ربما أكون قد اخترت.. ولكني لن أعلن لأني لن أرتبط ولن أسلم قيادي للرجل مرة أخري.. وانت تعلمين الأسباب..
نعم! كانت الهانم تعلم الأسباب ولكنها لم تكن تتصور في الوقت ذاته أن تظل نهير سجينة لتجربة تعسة تحكمها لآخر العمر!.. حدثتها عن حتمية النسيان ومداواة الداء بنفس الداء.. وضرورة البحث عن فرصة أخري للسعادة! فأجابتها بأنها لن تطارد الفرصة.. ولكنها لن ترفضها اذا لاحت متوافقة مع شروطها!
فهل كان هو تلك الفرصة؟ ربما.. ولكنها لابد أن تتريث.. وتطابق الصورة علي لائحة الشروط..
... في صباح اليوم التالي كان عليه أن يلحق بموعد محاضرته الأولي في تمام التاسعة.. وركب سيارته واخترق بها طرق حلوان حتي وصل لمشارف الجامعة, ليجد الطريق مغلقا تسده جموع الطلاب وحولهم سياج من رجال الشرطة التابعين لتلك الناقلات ذات اللون الزيتوني ـ سمع أنهم يسمونها عربات الترحيلات ـ وقد رآها كثيرا تربض بجوار مباني الجامعة علي أهبة الاستعداد! وكان كلما رآها يتذكر الأب والأخ الشهيد وينقبض صدره بإحساس مختلط من الرهبة والحزن والتشاؤم..
حاول أن يقاومهم هذه المرة بالتصميم علي اختراق الحصار والوصول الي مبني الكلية.. أخبره واحد من الضباط المشرفين علي الحصار بأنها مظاهرة شوية عيال لازم يتربوا... وبعد لحظات رأي بعينيه نموذجا عمليا للتربية التي تحدث عنها الضابط.. رأي طالبين محاصرين بين ثلة من رجال الأمن ينهالون عليهما ضربا في نوع من السادية المفرطة.. وحين سقط أحد الطالبين أرضا تعقبته الأحذية الثقيلة ركلا في قسوة اقشعر لها بدنه فترك السيارة وأسرع الي أطراف الدائرة الجهنمية.. وهتف مهيبا بأحد قواد الحملة الذي وقف يشاهد ما يحدث وعلي وجهه ابتسامة مقيتة ألا يمكنكم أن تؤدوا واجبكم الأمني بدون البطش وتجاوز الحدود؟, التفت له الرجل ذو النظارة السوداء والشارب الغليظ وهو يلوك اللبانة في فمه..
ـ ومن تكون بسلامتك؟
أخرج له الكارنيه وناوله إياه.. نظر فيه نظرة سريعة.. رماه علي الأرض وأشار برأسه الي مساعديه نحو د. شوقي..
وفي لحظات وجد نفسه بين أيدي اثنين من الجنود العمالقة تحمله الي صندوق الترحيلات الزيتوني..
قذفاه علي أرض العربة تحت أرجل كثيرة لمجموعة ممن سبقوه.. شباب تعرف فيهم علي بعض تلامذته.. جروحهم تقطر دما وشفاههم متورمة وعيونهم اختفت داخل الجفون المنتفخة..
ماذا يحدث؟.. سؤال أخرج من ذاكرته أصداء لمشهد قديم.. الأب يوم الافراج عنه بعد شهور قضاها في ضيافة ليمان الواحات... بعد أن سمع نقاشا احتدم بين شهدي وشوقي.. كان هو يؤكد لشقيقه الأكبر أن اشتغال الأب بالسياسة مغامرة ستدفع الأسرة ثمنها.. وجاء صوته يتهدج زحفا علي جدران الذاكرة.. كان يقف في مدخل الحجرة وقد بدا أكثر طولا..
ـ لن يضمن لك الخوف والاختباء الأمان الذي تظن..
وها هو يترنح علي إيقاع سير الصندوق وقد انتابه خدر الحواس حين ترتطم بمفاجأة الصدمة.. ذهبت الصدمة وجاء النوم.. احتواه مغيبا كل مشاعر الخوف..
... علي الأرض الأسفلت.. كان دكتور شوقي.. أستاذ الهايدروليكا, يعاقر أضغاث حلم عبثي